عندما توفيت أمى وأنا مازلت طفلاً فى المدرسة الابتدائية، قلبت فى أدراجها بفضول طفل لا يصدق أن أمه قد رحلت، جذبتها جميعاً حتى أسقطتها وتناثر كل ما فيها بعشوائية على أرض الغرفة بحثاً عن بقايا رائحة عطر أو فتات ذكرى أو قصاصة تحمل ظل توقيع باهت لم يطمسه الزمن، وجدت ملفاً مكتوباً عليه معهد القلب وحالة المريضة MITRAL STENOSIS، بحثت فى قاموسى المدرسى عن الترجمة، وجدت معناها ضيقاً فى الصمام الميترالى!

ظلت هذه الكلمات ترن فى أذنى حتى دخلت كلية الطب وعرفت أن هذا الضيق نتيجة لروماتيزم القلب الذى دخل متحف التاريخ فى الدول المتحضرة، ولكنه مازال ينهش قلوب أطفالنا فى مصر المحروسة، عندما زرت معهد القلب القومى الأسبوع الماضى كان أول ما شاهدته وسألت عنه هو ماذا يفعل مريض ضيق الصمام الميترالى فى المعهد وكم عدد ضحاياه الذين لحقوا بأمى التى ظلت ست ساعات داخل غرفة العمليات لتغيير صمام ثم انتهت الجراحة بمضاعفات جلطة ثم مرت فترة ورحلت أمى العزيزة التى لم يكن يستطيع ترجمة كلماتها المدغومة وحروفها المتعثرة إلا طفل فى التاسعة من عمره يكتم دموعه لكى يوهمها بأنها مفهومة ومعبرة وواضحة، كنت أتحمل عبء هذه الترجمة الفورية وأنا أدعو لها بالشفاء، ولكنى ودعتها فى ريعان الشباب.

وجدت مرضى الصمام الميترالى يجلسون ربع ساعة لتوسيع الصمام ثم يغادرون المعهد فى تمام العافية والحمد لله، وجدت نفسى أهمس لمن حولى ممن لا يعرفون القصة، وبلا وعى، أين أنت يا أمى الحبيبة الآن؟!، العلم يتقدم ويطبطب على جراح البشر بيده الحانية، مثلما قالوا لى فى معهد الكبد لو كان عبدالحليم عايش دلوقتى كان عمل زرع كبد وأنقذناه لكن الأعمار بيد الله!، تمنيت لو تحقق الكلام نفسه على أمى الحنون لكى أنعم بحضنها الدافئ فى زمن بخيل ضنين يوزع فيه الحب بالقطارة والكراهية بالقنطار!

شاهدت معهد القلب، آخر حصن للفقراء فى مصر من مرضى القلب، شاهدت قلب معهد القلب النابض، أكثر من خمسين قسطرة قلب فى اليوم فى عدة حجرات، عمليات قلب مفتوح بالمجان، حجرة كهربة القلب أو علاج ما نسميه الرفرفة والدقات غير المنتظمة، أدوية مكلفة جداً توزع بالمجان على المرضى، أطباء على أعلى مستوى، وعلى رأسهم أستاذ فاضل وعميد نشط هو د. عادل البنا، تعليم مستمر من خلال زيارات إلى الخارج وأيضاً من خلال فريق أجنبى يزور المعهد كل فترة، كفاءة الممرضات والفنيين شىء أثلج صدرى، ولكن، وآه من لكن المصرية التى تفسد وتصيب الثمرة الجميلة بالعطب، لابد أن ننقذ هذا المعهد ولا نجعله يتسول المعونات، المعهد يحتاج سنوياً إلى 80 مليون جنيه هى الفرق بين ميزانيته من الوزارة وتكلفة الخدمة التى يتحملها!!، نريد أن يكمل هذا المعهد مسيرته العلمية المحترمة والمهمة، نريده أن يستمر فى الخفقان والنبض والعطاء.